يتساوى فلسطينيو غزة أمام جرائم الاحتلال وسطوته على أرواحهم وممتلاكتهم ومكنونات هويتهم، إلا أنهم يختلفون في انتماءاتهم السياسية وخلفياتهم الاجتماعية وتباين أصولهم بين فلاحين وبدو ومدنيين-- يلبس جميعهم ثوب اللجوء أينما حلوا-- وبين مواطنين غزيين أصابهم سهم الاحتلال بلا تمييز.
وفي ظل انحسار الاتصال مع العالم الخارجي ودخول القطاع البائس عامه السابع من الحصار الاسرائيلي المصري، ينفرد بحر غزة في قدرته على توحيد صفوف أهالي غزة المنقسمة على ذاتها.
بحر غزة الذي يبسط شواطئه على مصراعيها في وقت تلفظ فيه غزة أبناءها الذين أثقلت البطالة كاهلهم وأوجعهم الفقر في عيشهم وموتهم سواء. ذلك الفقر الذي ما عاد يتسع لموت ببخس عيشهم. فلم يعد بمقدور الغزيين، إن ماتوا، دفع ثمن قبورهم التي تصل قيمتها إلى أكثر من 300 دولار أمريكي! عجز يتمنى معه الغزي أن يبتلعه البحر ليوفر على محبيه تكلفة رحيل وطقوس صلاة.
بجانب نصب تذكاري لشهداء قافلة مافي مرمرة التركية، وقف مطر ليدخن سيجارته قبل أن يسهب في حديثه عن اللعنة التي حلت بعائلته مذ أن ورثت مهنة الصيد أباً عن جد.
"إحنا عيلة صيادين، أنا وإخوتي وأبوي وجدي. وكل العائلات اللي حوالينا صيادين، بس ممكن تحكي إنو عيلة بكر هي أكبر عيلة بتمارس المهنة".
استمر مطر في إصلاح مركبه المعطوب فأضاف ابن عمه عاهد "في عيلتنا ما بنعرف غير هالمهنة، لا عنا متعلمين دكاترة ولا مهندسين." نظر في البحر بعيداً وأضاف "إحنا زي السمك، بنموت إذا طلعنا من البحر.. بنموت".
عاهد، وهو أب لثلاثة عشر من الأبناء والبنات، سبعة منهم متزوجون ويسكنون وأولادهم معه في نفس البيت.، قال لي وهو يضبط كوفيته حول رقبته "بدنا حوالي 100 - 150 لتر بنزين للمركب في اليوم. ابن عمي دفع من يومين 2000 شيكل في دخلته على البحر وباع السمك بـ700 شيكل. يعني دفع من جيبته ليخسر!"
اصطفت مراكب الصيد في ركنها الخاص. بعضها متآكل وبعضها الآخر أصبح موطناً للطحالب في مياه راكدة أغفلتها الأمواج. وبدا وكأن رحلات الصيد لا تؤتي أكلها. قبل عام قرر مطر المخاطرة والدخول بضعة أميال إلى البحر. لم يمض الكثير من الوقت قبل مصادرة قوات البحرية الاسرائيلية لمركبه، وحمله على السباحة إلى ميناء إسدود ومن هناك أجبر مطر على العودة براً من معبر بيت حانون المعروف بايرز. رحلة عذاب وامتهان لم يخرج منها حتى بتعويض عن خسارة مصدر رزقه.
هذا هو حال الصيادين في غزة. فبالرغم من تحديد سلطات الاحتلال مساحة الصيد بستة أميال بموجب اتفاق التهدئة الذي توصلت إليه مع الفصائل الفلسطينية عقب عدوان عامود السحاب في تشرين الثاني 2012 (من أصل عشرين ميل ضمنتها اتفاقية أوسلو)، إلا أن قواتها البحرية لا تتردد في اختراق حدود القطاع المائية لتنكل بالصيادين وبعيشهم وبقطاع الصيد الذي أصبح يعتمد على الأسماك المستوردة من الأنفاق ومن الجانب الإسرائيلي. ووفقاً للصيادين فإنهم لا يستطيعون تجاوز مسافة الميلين للصيد، وفي هذه الحدود التي لا تكثر فيها الأسماك فإن نسبة صيدهم لا تغطي 20% من احتياجات السوق المحلية.
لا تقتصر انتهاكات الاحتلال على تضييق الخناق على حركة الصيد فحسب، بل يتعرض الصيادون أنفسهم لضروب أخرى منها إطلاق نار أوقع الكثير من القتلى والجرحى منهم، واعتقالات عشوائية والتعذيب الذي يطال الكبار والصغار سواء، وإهانتهم وتجريدهم من ملابسهم علانية، وابتزازهم لتجنيدهم كعملاء. بالإضافة إلى مصادرة وإتلاف أدواتهم ومعداتهم وفتح خراطيم المياه على مراكبهم فتغرق أو يصيبها التلف. رصدت تقارير مركز الميزان لحقوق الإنسان منذ بداية العام الجاري 149 حالة استهداف للصيادين شملت إصابة 10 صيادين واعتقال 22 آخرين (بينهم مطر وأفراد عائلته) والاستيلاء على 8 قوارب وتدمير عشرات المعدات.
ووفقاً لعاهد فإن الزوارق الحربية الإسرائيلية عادة ما تطلق النار باتجاه قواربهم لإجبارهم على الفرار والتوقف عن الصيد. كما أنهم اعتقلوه واخوته وأبناء عمه لخمسة عشر يوماً قبل أن يطلقوا سراحهم، إلا أنهم صادروا قواربهم ومعداتهم! انتهاكات لا تهدد سلامتهم الجسدية والنفسية فقط، بل تهدد مصدر عيشهم وعائلاتهم التي تزداد فقراً على فقرها كل يوم.
يسرد عاهد قصصه الكثيرة بشكل اعتيادي، فيبدو أن الاحتلال بات جزءأ لا يتجزأ من روتينه اليومي. قال: "ابن عمي محمد بكر استشهد في عرض البحر في 2010.. طخه الطرّاد.. في قلبه". ومضى "مات وإمه بتجهز لعرسه". لم يمكنني قراءة وجهه ولا نبرة صوته. أعرف أنه بدا مهموماً، وكدت أعتقد أنه استسلم لواقع أبى إلا أن يلتصق بعالم الصيادين، لكنه سارعني بالقول "إحنا بنخافش لا من بحر ولا من احتلال.. بنخافش إلا من ربنا".
يسلم عاهد ومطر وآخرون بواقع يفرضه الحصار عليهم، ولكنهم لا يستسلمون له. فعندما لا يستطيعون الصيد، يؤجرون مراكبهم للقيام بما وصفوه "بالطلعات السياحية" للترزق والترفيه. وقد تكون لكلمة "ترفيه" هنا دلالات غير دقيقة. فقد يرى الكثيرون ممن يترددون على البحر أنه متنفسهم الوحيد للتحرر من قيود حصار يقوضهم من الخارج والداخل، وأنه "لولا البحر عليهم" لما تمكنوا من الصمود والاستمرار. ويرى آخرون أن هذه مجرد "خزعبلات" يخلقها الباطن ليواسي نفسه على بؤس لا يستطيع أحد الامساك بتلاببيبه لفهمه. فالغزي محاط بجدران وسياج من كل ناحية. وحين تلجأ إلى البحر، تلوح في أفقه ساعة الغروب "طرادات" الحربية الاسرائيلية وتزين أضواؤها حدود بحرك، فيما تطرب أذناك لوقع زنانات الاستطلاع الإسرائيلية التي تحتل فضاء سمائك. فقل لي: كيف لك في بحرك إذاً أن تتحرر من الحصار؟
ينفرد أهالي غزة بكونهم يحاربون عدواً لا يرونه. عدو يحوطهم على رقعة شطرنج ولا يترجل للقتال. عدو من سراب، كلما اقتربوا منه فرد عليهم جدرانه أينما ولوا. سوريالية المشهد اليومي في غزة هي أشبه بفيلم "ذا ترومان شو" الهوليودي. حيث تبث كاميرات برنامج واقعي حياة طفل منذ ولادته حتى بلوغه، دون علمه. يكبر الشخص الذي يمثل دوره جيم كاري معتقداً أنه كغيره من البشر يعيش وهم الحرية والاختيار، ليجد لاحقاً أنه في سجن كبير. . . رهينةً لعدو لا يعرفه. . . تحت سمع وبصر وصمت العالم أجمع.
على استحياء وقف قارب كبير على حدود ميناء غزة. بدا مختلفاً عن باقي قوارب الصيد الصغيرة وعلى نحو يثير الانتباه. سألت بسذاجة: قارب صيد؟ فقال: "هادا قارب للأجانب. بدهم يطلعوا فيه من داخل غزة لكسر الحصار!" واستأنف "مش عارف هم المحاصرين ولا إحنا؟" ابتسمت وقلت: هذه جهود رمزية. فأجاب: لما إحنا بنموت كل يوم، شو رح تعملّي الرمزية؟ إذا بنحمل سلاح وبنحمي حالنا بتتهمنا حكوماتهم بالإرهاب"
وقد تبدو الحركات التضامنية مبعثاً للأمل لبعض الفلسطينيين ولكن تبقى هذه الحركات جهوداً فردية وغير منتظمة. جل ما تسعى إليه هو لفت الانظار إلى ما يحدث في غزة، ولا شيء أبعد من ذلك. أما الفلسطينيون، فيرون أن الاحتلال مستمر بفعل الدعم الدولي للمشروع الاستعماري الاستيطاني والذي يدفع ثمنه دافعو الضرائب ومنتخبو الحكومات. وعليه، تقع على عاتق المتضامنين مسؤولية أخلاقية الضغط على حكوماتهم لاحترام ميثاق حقوق الانسان والقانون الدولي في الداخل والخارج.